السبت، 28 فبراير 2009

معالم التربية في الأسرة المغربية

- لقد ظلت الأسرة المغربية، لحقب طويلة مضت، متلاحمة ومتماسكة؛ بفضل القيم التربوية التي آمنت بها، وذلك ما أسهم في إعطاء المجتمع المغربي خصوصيته الاجتماعية.
- بعد الإيمان بالله ومحبته؛ يربى النشء في الأسرة المغربية على محبة الرسول واتباعه؛ باعتباره المعلم والمربي القدوة؛ الذي لا تزل أقدام من سار وراءه ونهج نهجه.
- إن القيم التربوية الأسرية المغربية التي تشكلت في ظل التشبث بأصول الهوية المغربية الدينية والثقافية، والتي تلاقحت فيها عناصر وعوامل مختلفة آتية من الدين واللغة والتاريخ والجنس والإقليم، هي التي شكلت اللقاح التربوي الذي كان يلقح به أبناؤنا وبناتنا.

يعتبر نظام الأسرة في مجتمعنا المغربي قاعدة أساسية لبناء المجتمع لا يمكن الاستغناء عنها، ولا يمكن استبدالها بغيرها، ولا يمكن تغيير صورتها النمطية التي أقرتها الأعراف الاجتماعية الفطرية لما قبل الإسلام، ثم توطدت وترسخت مع مجيء الإسلام وشريعته الغراء، ومن ثم؛ فالأسرة المغربية تتكون في وحدتها الأساسية الصغرى من الأب (الزوج) والأم (الزوجة)، ثم تتوسع لتشمل مختلف الأقارب من أجداد وأعمام وأخوال وأبنائهم وغير ذلك، بل إن النظام القبلي في المغرب ظل لفترة طويلة تمثل فيه القبيلة نموذجا لأسرة كبيرة؛ تتلاحم فيها صلات ووشائج القرابة بين أبناء وبنات العمومة والخؤولة، وأحيانا تمتد صلات القرابة هذه؛ لتقرب القبائل المتباعدة فيما بينها، وهذا كله يمثل أحد تجليات مبادئ الإسلام الاجتماعية؛ التي ترسخت في حياة المغاربة من قديم الأزمان، كما عبرت عنها آيات القرآن الكريم في قول رب العزة سبحانه: «يَا أَيُّها الَنَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكًمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْناكُمْ شُعوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ»، وفي قوله أيضا: «وَهُوَ الَّذي خَلقَ مِنَ الْماءِ بَشراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً، وكانَ رَبُّك قَديراً».

ومن ثم، فإن نواة الأسرة شكلت محضنا للتربية؛ باعتبارها المدرسة الأولى التي يُنَشَّأً فيها الأولاد والبنات، ويرضعون فيها من لبان التربية مختلف القيم الإسلامية المغربية؛ عربية وأمازيغية، لأن الإسلام صهر في بوثقته كل القيم الإيجابية التي كانت عند العرب والأمازيغ، بعد أن أسسها على القيم الربانية النابعة من العقيدة الإسلامية وشريعتها السمحة، وهذا ما عبر عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام في قوله «إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاقِ»، ومن هنا يتضح مدى التداخل والتلاقح الفكري والتربوي الذي عرفته القيم الأسرية في مجتمعنا المغربي، والذي تشكل نسيجه عبر مئات السنين، وأفرز لنا نموذجا حضاريا إسلاميا مغربيا؛ بكل ما فيه من العناصر الثقافية العربية والأمازيغية، تنضاف إليها عناصر أخرى مكملة وافدة من ثقافات البحر الأبيض المتوسط؛ وعلى رأسها الثقافة الأندلسية الإسلامية، ثم المؤثرات الإفريقية الصحراوية والزنجية، ومن ثم؛ صار الكيان التربوي للأسرة المغربية الإسلامية؛ أشبه ما يكون بجسد الطاووس الجميل المزركش، والذي تتداخل فيه جل الألوان في تناسق وتناغم قل نظيره في المجتمعات الأخرى.

التربية الأسرية صمام أمان

لقد ظلت الأسرة المغربية، لحقب طويلة مضت، متلاحمة ومتماسكة؛ بفضل القيم التربوية التي آمنت بها، وذلك ما أسهم في إعطاء المجتمع المغربي خصوصيته الاجتماعية؛ التي تميزت بالحفاظ على وحدته وهويته واستقلاله، وفي ظل هذا الجو؛ كان ينشأ أولاد وبنات المغرب تنشئة متوازنة؛ تفتح بصيرتهم على ذواتهم، ثم على المحيط المحلي والإقليمي القريب منهم، ثم على المحيط العربي الإسلامي؛ الذي يربطهم بأمتهم الواسعة، ثم على المحيط الإنساني العالمي الشاسع، وبذلك شكلت التربية الأسرية المغربية صمام أمان في حياة أبنائنا، لأنها كانت تحقنهم منذ المراحل الأولى من حياتهم بالقيم الإيجابية التي تشكل عقليتهم، ونفسيتهم، وأخلاقهم وسلوكهم، حيث يُنَشَّؤونَ أولا على عقيدة الإيمان بالله وتوحيده، والتوكل عليه، والاستعانة به في جميع أمورهم، وهذا ما كان يزودهم بطاقة روحية ونفسية عميقة؛ تسعفهم في جميع الحالات والمواقف، وتمدهم ببوصلة الطريق التي لا تتركهم يتيهون هنا أوهناك، وحتى إذا ما تاهوا؛ فهي تذكرهم دائما بالاتجاه الصحيح للعودة، وكلما قرروا العودة ـ
وسرعان ما يعودون ـ أبصروا طريق الرجوع بكل وضوح مصداقا لقول رب العزة «وَالَّذينَ إِذا فَعلوا فاحِشَةً أو ظَلَموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَروا اللهَ فَاسْتَغْفَروا لِذُنوبِهِمْ، ومَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللهَ، ولمْ يُصِرُّوا على ما فَعَلوا وهُمْ يَعْلمونَ»، وفي قوله «إِنَّما التَّوْبَةُ على اللهِ لِلَّذينَ يَعْمَلونَ السُّوءَ بِجهالةٍ ثُمَّ يَتوبونَ مِنْ قَريبٍ، فَأولئِكَ يَتوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وكانَ اللهُ عَليماً حَكيماً».

محبة الرسول واتباعه


وبعد الإيمان بالله ومحبته؛ يربى النشء في الأسرة المغربية على محبة الرسول واتباعه؛ باعتباره المعلم والمربي القدوة؛ الذي لا تزل أقدام من سار وراءه ونهج نهجه، وقد بلغت محبة المغاربة للنبي وآل بيته حدا يتجاوز كل وصف، واصطبغت هذه المحبة بصبغة خاصة؛ لبعد بلاد المغرب عن المشرق مهد الإسلام وحضارته، ومسرح مآثره العظيمة كالمسجد الحرام، ومسجد الرسول وقبره، حيث يعظم الشوق ـ وتعظم معه المحبة ـ إلى زيارة هذه المآثر كعنوان لهذا الحب، حتى إن كثيرا من الناس لا يفهمون معنى للحج إلا في سياق ربطه بزيارة قبر النبي ، رغم أن هذه الزيارة هي فائدة إضافية، يستفيدها الحاج من سفره لأداء مناسك الحج، وليست هي من المناسك في شيء. ومما زاد حب النبي درجة زائدة في نفوس المغاربة؛ قدوم آل البيت رضوان الله عليهم وتأسيسهم لأول دولة مغربية مسلمة على الكتاب والسنة على يد المولى إدريس الأول رحمه الله ورضي عنه، وقد اتخذ حب آل البيت ومبايعتهم صورته الصحيحة على يد المغاربة، لأنه لم يختلط بآراء التشيع وبدعه الفاسدة التي عرفها المشرق العربي، بل إنه تأسس على الكتاب والسنة، وحب جميع الصحابة رضوان الله عليهم، ابتداء من الخلفاء الراشدين وعلى رأسهم الخليفتان أبو بكر وعثمان، ثم علي وعثمان رضوان الله عليهم جميعا. وتتجلى محبة النبي وآل بيته وجميع صحابته؛ في التربية الأسرية المغربية في مختلف مراحل التنشئة الاجتماعية؛ من مرحلة الكُتَّاب إلى مرحلة الزواج، حيث تشهد احتفالات الزواج أهازيج وأمداحا في حب النبي وآل بيته وصحبه رضوان الله عليهم. وإذا ما استثنينا أخطاء بعض العوام الذين يبالغون أحيانا في إظهار هذا الحب بما يتنافى مع الشريعة التي جاء بها هذا النبي المحبوب ، حيث نجد بعضهم يلجأ إلى الاستغاثة بالنبي، أو الوقوع في بعض البدع المخالفة لسنته إلى غير ذلك، فإن هذا الحب يبقى ثانيا معلما تربويا عظيما لصياغة وجدان ناشئة المغرب وسلوكهم على مر الأجيال.

حب الوطن


أما المعلم الثالث في التربية الأسرية المغربية فهو تنشئة النشء على حب الوطن والمؤمنين من أبنائه، حيث يكون ولاؤه دائما لدينه وأمته، ووطنه وعشيرته، فلا تغريه المطامع مهما كانت، ولا يستبدل انتماءه العقدي والحضاري بغيره، لأنه يشعر بعزة هذا الولاء والانتماء يملك عليه كيانه، ويرفع هامته عاليا، مستحضرا قول رب العزة «وللهِ الْعِزَّةُ ولرَسولِهِ وللمومِنينَ»، ولذلك فقد يصاب في جسمه وماله ولا يأبه لذلك ما دامت قيمه العليا التي يؤمن بها سليمة لم يمسسها سوء.
وإذا ما امتلك الصحة والعافية والمال وكل وسائل القوة والحياة فإنه يسخرها في خدمة المبادئ التي يؤمن بها.
والتعلق بالوطن وأهله عند الإنسان المغربي المسلم هو ارتباط شامل بكل أفراد هذا الوطن مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ولذلك كانت قيمنا التربوية الأسرية قيم تعايش بين الجيران بمختلف طوائفهم وتلاوينهم العرقية والدينية والمذهبية.

تنشئة الفتاة المغربية


والمعلم الأخير وليس الآخر الذي أريد الوقوف عنده؛ هو التنشئة الخاصة التي كانت تنشأ عليها الفتاة المغربية، والتي تبدأ من التربية على العفة والفضيلة والحياء، ثم على العمل داخل بيتها وحسن التدبير فيه والعطاء بعد زواجها، رغم ما سجل في حقها من قصور في التعلم من طرف المجتمع، وهو قصور مس الفتيان والفتيات قديما، لكن الفتاة تضررت منه أكثر بسبب الأوضاع التي سادت قديما، وتحكمت فيها بعض الأعراف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أعطت الأولوية للرجل في حق التعلم، وأهملت المرأة إلا في حالات نادرة، ومع ذلك فرغم طغيان الأمية النسائية في صفوف بنات المغرب قديما، فلا أبالغ إذا قلت إن الفتاة المغربية كانت أوفر حظا في تربيتها من كثير من الفتيان، لأنه كان دائما ينظر إلى الفتاة المغربية على أنها مشروع أم مستقبلية –وقد عرفنا الدور الخطير للأم داخل الأسرة المغربية- وينبغي أن تعد لهذا الأمر، حتى تنال الرضا والقبول عند زوجها وأسرته أولا، ثم عند أسرتها، ثم عند المجتمع كافة، وقد حفظت لنا الثقافة الشعبية العربية والمغربية كيف كان الأمهات ينشئن بناتهن ويزودنهن بالوصايا والحكم التي تجعلهن ناجحات وسعيدات في بيوتهن.

لقاح وتلاقح

إن هذه القيم التربوية الأسرية المغربية التي تشكلت في ظل التشبث بأصول الهوية المغربية الدينية والثقافية، والتي تلاقحت فيها عناصر وعوامل مختلفة آتية من الدين واللغة والتاريخ والجنس والإقليم، هي التي شكلت اللقاح والمصل التربوي الذي كان يلقح به أبناؤنا وبناتنا، ويمدهم بالمناعة الفكرية والوجدانية والسلوكية التي تجعل منهم شعبا موحدا في ثقافته وقيمه التربوية، ومتشبثا بهويته الدينية والثقافية والاجتماعية، وفي نفس الآن منفتحين على ما يحيط بهم من ثقافات أخرى، انفتاح المفيد والمستفيد، وهذا ما جعل المغرب معبرا حضاريا لحمل قيم الإسلام التربوية والحضارية إلى أوربا شمالا في الأندلس، والصحراء وإفريقيا جنوبا، وهذا ما يلقي علينا اليوم تبعة الحفاظ على هذه القيم في صورتها الإيجابية التي بلورها العقل المغربي الواعي والمتبصر، دون إغفال جانب مراجعتها لتخليصها من بعض الشوائب التي علقت بها، ثم الانفتاح بها على الواقع الحديث والمعاصر لإحداث طفرات تلاقحية جديدة تعزز جانب هذه القيم، وتجعلها في خدمة مجتمعنا والإنسانية جمعاء.
والسؤال الكبير الذي يواجهنا اليوم ويؤرقنا معشر الآباء والأمهات والمربين، هل مجتمعنا بالفعل لا يزال يتمتع اليوم بحصانته التربوية، المتمثلة في هذه القيم العظيمة؛ أمام القيم الغربية الوافدة والغازية لمجتمعنا المغربي الإسلامي؟ والتي نشاهد اليوم كثيرا من تداعياتها السلبية في أخلاق أبنائنا وسلوكهم المنحرف، والجانح نحو التمرد على قيم العفة والاستقامة، فهل هي سحابة صيف سرعان ما ستنقشع كما انقشعت كثير من سحب الاستيلاب في حياتنا المعاصرة؟ أم هي أمراض أصبحت تنخر مجتمعنا المغربي وتهدد كيانه التربوي والحضاري الذي ضمن وجوده واستقلاليته عبر التاريخ؟ وهي أسئلة أصبحت اليوم تؤرق مختلف المربين والدارسين والباحثين، ونسأل الله أن يفعل خيرا بمجتمعنا، والحمد لله رب العالمين.

الدكتور محمد بنينير

رياض الدعاة


0 التعليقات:

إرسال تعليق