الأحد، 1 مارس 2009

الدكتور علي المنتصر الكتاني مهندس البعث الإسلامي في آخر ثغر إسلامي


كم تغمط هذه الأمة حق رجالها المخلصين..
هذا هو الشعور الذي انتابني وأنا أبدأ سطور تلك الترجمة لواحد من هؤلاء الرجال.كنت قد التقيت بالأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني للمرة الأولى والأخيرة في سبتمبر من عام 2000 خلال المؤتمر العاشر للأكاديمية الإسلامية للعلوم الذي عقد بتونس، وبالتحديد في رحلة إلى مدينة القيروان، كان الدكتور الكتاني فيها المرشد السياحي، والمؤرخ الحصيف الذي يشرح لنا بالعربية والإنجليزية والفرنسية معالم وتاريخ المدينة.لم يكن الاسم غريبا على أذني؛ فقد كنت قد قرأت كتابه عن الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم.. جذورها ومسارها من سلسلة كتاب الأمة، وغاب عني وقتها ما قرأته على الغلاف الخلفي للكتاب أنه من علماء الهندسة الكهربية، لا يقل إسهامه في المجال العلمي عن إسهامه في المجال التاريخي والإسلامي.معرفة الكتاني.. كنز جلست إلى الدكتور علي خلال المؤتمر، وتعرفت على تنوع أنشطته، وتواعدنا على أن نتواصل وأن يكتب لنا عن الجامعة الإسلامية التي أنشأها ويرأسها في قرطبة، وبعد شهور من لقائي به وجد ميتا في شقته بقرطبة، في ظروف وملابسات وصفتها بعض وسائل الإعلام العربية بالغامضة.

رحل تاركا خلفه اثني عشر كتابا بالإنجليزية والعربية، ومائة وخمسين بحثا في مجالات الهندسة الكهربائية وشئون الأقليات المسلمة، لكنه ترك أهم من ذلك: بذورا للعلم والخير، ستظل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.وقد هممت أن أكتب عنه حين علمت بنبأ وفاته، لكن أعوزني قلة المعلومات عنه فاضطررت أن أنتظر عامين، ولكن حين أعلن مؤخرا عن افتتاح أول مسجد في غرناطة منذ سقوط الأندلس وجدت نفسي مدفوعا للكتابة عن هذا الرجل الذي لعب دورا بارزا في البعث الإسلامي في الأندلس لم يأخذ ما يستحقه من الاهتمام والدراسة، وأظن أنه يستحق أكثر من كتابة مقال عنه، تماما كآل الكتاني الذين يستحقون أن يكون لهم على الأقل موقع على الإنترنت يؤرخ لحياتهم ويضم أعمالهم، ولكن فلننظر فيما توفر عن الرجل من معلومات، ورغم أنها قليلة جدا فإنها ترسم صورة قد تكون غير مكتملة، لكنها تكشف عن قيمة الرجل وأهميته كما تعرف به، ومعرفة الرجال -كما يقولون- كنزآل الكتاني..

أهل علم وجهاد ولد الدكتور علي المنتصر الكتاني بمدينة فاس المغربية في 27 سبتمبر عام 1941 لأسرة عريقة في العلم والجهاد لمقاومة الاستعمار الفرنسي والأسباني بالمغرب؛ فأبوه هو العالم الشيخ محمد المنتصر الكتاني مدير إدارة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ومستشار الملك فيصل بن عبد العزيز. وجده محمد بن جعفر الكتاني صاحب كتاب نصيحة أهل الإسلام في أسباب سقوط الدولة الإسلامية وعوامل نهوضها، وقد عدته الصحف الفرنسية عند وفاته عام 1927 أكبر عدو لفرنسا بالمغرب.أما جده محمد بن عبد الكبير الكتاني فنموذج للصوفية المجاهدة، قاوم الاستعمار حتى نال الشهادة، فقال عنه قائد ثورة الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي: لقد اقترن استشهاده باستشهاد أمة كاملة، أما أمه فمن أسرة الفاسي الفهري التي اشتهرت بالفقه والتقوى. وقد اعتنى الشيخ الكتاني بتربية ابنه علي؛ حيث كان يصحبه معه في غدوه ورواحه، ولما سئل يوما عن ذلك قال أريده أن يتعلم من الكبار، ويوم أن أراد ابنه أن يسافر للتعلم في لوزان قال له:أنا ربيتك إلى أن نشأت بين يدي، واطمأننت عليك؛ فالآن أنت ستذهب ولا رقيب عليك إلا الله سبحانه وتعالىثم قال له:إذا جئتني بنصرانية أفضل أن أذبحك بيدي على أن يذبحك غيري! طريق الهندسة الكهربائية بعد ولادة علي تنقلت الأسرة بين مدينتي سلا وطنجة، حتى بلغ السادسة عشرة من عمره. ثم انتقل والده للتدريس بجامعة دمشق، وهناك أتم علي دراسته للثانوية المزدوجة (عربي/فرنسي)، ثم سافر إلى لوزان بسويسرا ليحصل على دبلوم الهندسة الكهربائية، ثم ماجستير الهندسة النووية من جنيف عام 1963.

ثم سافر إلى الولايات المتحدة، وحصل على دكتوراة الهندسة الكهربائية من جامعة كارنيجي ميللون في بنسلفانيا عام 1966. ثم عاد إلى المغرب للتدريس بالمدرسة المحمدية للمهندسين، لكنه ما لبث أن عاد للولايات المتحدة ليعمل أستاذا مساعدا للهندسة الكهربائية في جامعة بيتسبرج حتى عام 1968، ثم دعاه والده للعمل بالسعودية حيث كان يعمل مستشارا للملك فيصل، فذهب علي للعمل أستاذا مساعدا بكلية الهندسة جامعة الرياض حتى عام 1969، ثم جامعة البترول والمعادن بالظهران حتى عام 1973، ثم انتقل أستاذا بالجامعة فرئيسا لقسم الهندسة الكهربائية بها حتى عام 1982، وخلال تلك الفترة سافر للتدريس في معهد التكنولوجيا الشهير بماساشوستس كأستاذ زائر، وعمل أستاذا للدراسات العليا بإيطاليا. وكان يعد من المتخصصين في الطاقة الشمسية وهندسة البلازما.

وقد تقلد الدكتور علي عدة مناصب، منها:
مدير عام للمؤسسة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا والتنمية من عام 1981 حتى عام 1989، ومؤسس وسكرتير عام الأكاديمية الإسلامية للعلوم من عام 1986، ثم نائب لرئيسها من عام 1994، وعضو مجلس إدارة الاتحاد الدولي لمعاهد الدراسات المتقدمة بأستوكهولم، وعضو مجموعة أبحاث الطاقة بأوتاوا، وعضو اللجنة التنفيذية للإيسيسكو من عام 1982 حتى عام 1986. مهندس البعث الإسلامي في الأندلس علم الأندلس أثرت التنشئة الإسلامية الخالصة في الدكتور علي، فجعلت الاهتمام بالإسلام والعمل له مكونا أصيلا في شخصيته، وقد كان الاهتمام بالأقليات الإسلامية وبالأندلس هما المحورين الرئيسيين في تلك الشخصية.أما اهتمامه بالأقليات فقد بدأ يأخذ حيزا عمليا منذ أن ندبه الملك فيصل لاستجلاء أحوال تلك الأقليات في العالم، وذلك حين بادره الدكتور علي في جلسة معه بحضور والده قائلا:إن هذه الطريقة التي تتعاملون بها مع موضوع الأقليات ليست علمية، إنما الطريقة العلمية أن ترسلوا وفدا يمسح مسحا تاما البلدان التي تضم أقليات مسلمة، ثم بعد ذلك تعينونهم وتساعدونهم.

وقد أثمر اهتمامه بهذا الأمر عددا من الكتب، منها:
المسلمون في أوروبا وأمريكا،
المسلمون في المعسكر الشيوعي،
الأقليات الإسلامية في العالم،
وعدد من البحوث المنشورة في عدد من الدوريات.
أما اهتمامه بالأندلس فيعود إلى عام 1973 خلال زيارته لأسبانيا في إطار إعداده لدراسته حول المسلمون في أوروبا وأمريكا.

وقد كان اهتمامه ذاك تأثرا أيضا بوالده الذي كان له اهتمام خاص بالأندلس والبحث في تاريخها، وإحياء الإسلام فيها. وقد ساهم الدكتور الكتاني منذ بداية الثمانينيات في جميع مظاهر الصحوة الإسلامية في الأندلس وعودة الأندلسيين إلى هويتهم الإسلامية، مشاركا ومتابعا لجميع الفعاليات والأنشطة الإسلامية، سواء بتأسيس الجمعيات أو الجماعات أو المراكز الثقافية أو المساجد، أو إقامة المؤتمرات، وتنظيم الدورات التعليمية الإسلامية، وإرسال بعثات لتلقي التعليم في جامعات العالم الإسلامي الدينية، وترجمة معاني القرآن للغة الأسبانية.وقد ساهم بشكل أساسي في تشكيل جمعية قرطبة الإسلامية، وفي أغلب أنشطة الجماعة الإسلامية في الأندلس التي تأسست عام 1980، على نحو ما دونه تفصيلا في كتابه انبعاث الإسلام في الأندلس، الذي تم تلخيصه في كتاب الأمة السالف الذكر.

يقول الشيخ حسن الكتاني نجل الدكتور علي: كانت ميزة الوالد رحمه الله أنه يحب أن يبقى دائما خلف الستار بعيدا عن الواجهة، ولا يبرز أمام مسرح الأحداث، ولو قرأتم كتابه انبعاث الإسلام في الأندلس لوجدتم أنه لا ذكر لاسمه، مع أنه كان رحمه الله وراء كل تلك الأحداث التي حكى عنها منذ عشرين سنة (وقت إجراء الحديث عام 2001) في الأندلس، ثم يقول: لقد دخل الوالد الأندلس ولا وجود للمسلمين الأسبان بها، واليوم صاروا بالآلاف.

وقد توج الدكتور علي مساهماته في بعث الإسلام في الأندلس بالمشاركة في تأسيس جامعة ابن رشد الإسلامية في قرطبة التي تمنح درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها وفي الدراسات الإسلامية، والتي بدأ العمل في تأسيسها عام 1993، وانتهى في أغسطس من العام التالي، وقد تولى الدكتور علي رئاسة تلك الجامعة حتى وفاته عام 2001 في قرطبة. وقد واجه الدكتور علي صعوبات جمة في عمله الإسلامي بالأندلس عموما، وفي بناء الجامعة بصفة خاصة، خاصة من اليمين الأسباني المتطرف، ومن الكنيسة، بل ومن بعض الدول العربية المشرقية التي هددته بتدمير الجامعة وبناء مدرسة ابتدائية بدلا منها.

بل إن بعض أصحابه الذين كونهم على يده في الأندلس حاولوا عزله من رئاسة تلك الجامعة. حب وانفتاح ونبذ للغلو يحكي الشيخ حسن الكتاني عن والده وعن أخلاقه وصفاته فيقول: الوالد رحمه الله تربى على حب الإسلام -وكفى- من غير أي عناوين أخرى، فلم يكن يعرف للمذهبية معنى ولا للحزبية، يتعاون مع الجميع ويؤيد الفكرة الإسلامية أنى كانت..

كان الوالد يربينا على حب الإسلام والمسلمين وترك التعصب للمذاهب، وكان يردد دائما مقولة الإمام مالك رحمه الله: أهل السنة من لا اسم لهم سوى السنة. ولذلك كانت علاقته مع جميع الجماعات الإسلامية طيبة، ولم يكن يجد غضاضة أو حرجا في التعامل مع أي منها.. وكان الوالد شديد الانفتاح وكان يترك الحرية لأبنائه في أن يفعلوا ما يشاءون في إطار الآداب الإسلامية والشرع، ولكنه كان يراقب أصدقاءنا، وكان ينصحنا بقوله: يا بني من ليس له نفع ديني ولا دنيوي فلا تصحبه.. كان الوالد يخشى علينا من الغلو في الدين، وينقل لنا بعض أقوال السلف في نبذ الغلو مثل قول الإمام مالك رحمه الله: من تصوف قبل أن يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق.

تواصل ما بعد الرحيل على قصر ما التقيت وتكلمت مع الدكتور علي خلال أيام المؤتمر السبع؛ فكما يقول الحديثالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.. فإن روحي قد ائتلفت روحه.. وتعارف قلبي على قلبه، فعرف فيه قلبا -أحسبه- ممن قيل فيهم أفئدتهم كأفئدة الطير.. أفئدة صفية نقية، تملك طاقة كبيرة من الحب لدينها وأمتها.. أفئدة لا تقف كثيرا عند سفاسف المعكرات وإن كثرت.. أفئدة تتواضع لربها ولخلقه ولا تتعالى على الناس.. هكذا ما زلت أذكره رغم مرور ما يقرب من ثلاثة أعوام متواضعا، دمث الخلق، سمح النفس، مرحا… لا تزال ضحكاته المدوية وصوته الجهوري يرنان في أذني كأنني سمعته بالأمس القريب.. رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له في العطاء جزاء ما قدم لدينه وأمته.

د.مجدي سعيد
الاندلس للاخبار

0 التعليقات:

إرسال تعليق