غرفة صغيرة لها باب يطل على زقاق الحي ، هذا الباب هو المنفذ الوحيد للهواء والضوء لذلك كان يظل مفتوحا دائما ...فرشت أرضية الغرفة بالحصير ، وعلقت على إحدى جدرانها سبورة سوداء . أذكر أيضا مجموعة من الأدوات، مثل الألواح الخشبية وأقلام القصب وقارورات المداد والمصاحف والكتب.. لكني لا أذكر إن كان هناك رف يحتويها أم خزانة ...كان "الفقيه" -هكذا نسميه - يجلس قرب الباب ، ويضع أمامه عدة الكتابة وأدوات الزجر : عصاتان إحداهما قصيرة للقريبين ، والثانية طويلة لمن يجلسون في آخر الغرفة ...
كنا نتعلم ونراقب المارة في نفس الوقت ، وكان يسلم على "الفقيه" أصحابه من سكان الحي كل يوم ، كان من أحبهم إلينا "با موح" ، وهو رجل أنيق جدا يلبس دائما اللباس التقليدي بجميع تفاصيله ، بما فيها العمامة والمحفظة الجلدية والخنجر ، وكان كثيرا ما يداعب "الفقيه" بأن يستل خنجره من غمده ، ثم يقابله مع قرص الشمس ، وكأنه يسخنه ، ثم يمسك بفقيهنا المسكين وكأنه يريد قتله...
كنا ندرس خارج الغرفة في فصل الصيف حين يشتد الحر ، فيكلف الفقيه بعض قدماء التلاميذ بإخراج الحصير إلى مكان مضلل في الزقاق لنجلس في الهواء الطلق، وتبدأ حصص أخرى من نوع خاص، فلسنا بحاجة إلى أن نشرئب بأعناقنا لرؤية المارة ...
من أحب الأعمال إلى نفسي آنذاك، الكتابة على اللوح ، فقد كنت أنتظر بفارغ الصبر أن أكمل حفظ سورة ، لكي يُطلب مني أن أمحو لوحي بالصلصال ، والصلصال لمن لا يعرفه حجر طيني رمادي اللون ، نبلله ونمرره على اللوح لتختفي الكتابة ، ثم نضع اللوح تحت أشعة الشمس ليجف، فيكون بذلك جاهزا للكتابة من جديد...
بعد ذلك آتي "الفقيه" باللوح لكي يكتب عليه بخط يده بقلم قصبي، وبدون مداد السورة الموالية ،هذه الطريقة تترك أثرا على اللوح، وما على التلميذ إلا اتباعه باستعمال القلم والمداد معا ..
أما شقاوات الصغار آنذاك فلا تعد ولا تحصى ، وأذكر منها ما كان يتكرر بشكل شبه يومي ..فكثيرا ما كان ينام بعض الأطفال أثناء ترديدنا للقرآن بشكل جماعي، لذلك تجدنا نحن المستيقظين ، نقطع أعوادا من الحصير لادخالها في آذان النيام الذين يستيقظون فزعين ...
ومن شقاوات الأولاد تجاه البنات جلبهم حشرة يسمونها "الصرار" تشبه النحلة ، فيربطون إحدى أرجلها بخيط طويل ، ويضعونها في صندوق لأعواد الكبريت، وما ان يدخلوا للكتّاب حتى يطلقوا العنان لحشراتهم لإفزاع البنات، ثم سرعان ما يقومون بسحب خيوطهم بسرعة لإخفاء الحشرات من جديد ...
"الفقيه" لا يعلم بكل ما يجري فقد كلف كل واحد منا بحفظ ما بلوحه وكفى ، كما أن أصواتنا أثناء الحفظ وتمايلنا مع الألواح يخفي عنه الكثير مما يروج في آخر الغرفة ، و كثيرا ما يكون منهمكا في محادثة صديق ، أو كتابة لوح ، أو التهام ما يجود به الجيران من أصناف الطعام والشراب ، لكن مع ذلك لا أنكر انه كان يشركنا في هذا الطعام بما قل أو كثر، ولا ينسى منا أحدا ..
تخرجت من الكتاب وأنا أحمل في صدري ما تيسر من كتاب الله ، كما تعلمت القراءة والكتابة والحساب أيضا ، كانت هذه هي مدارس التعليم الأولي المنتشرة في أيامنا ، مدارس بدون طاولات، والأدوات المدرسية فيها كانت: اللوح والطباشير واللوح الخشبي ، أما أجرة الفقية فكانت درهما واحدا للأسبوع ، نسلمها له عشية كل الخميس..
أم عبد الرحمان
0 التعليقات:
إرسال تعليق