السبت، 28 فبراير 2009
بيداغوجية تحفيظ القرآن الكريم تافيلالت نموذجاً
تمهيد
لقد أدرك سلف هذه الأمة عن وعي كامل قيمة رسالة القرآن وعلموا علم اليقين أنها مصدر وجودهم، وقلبهم النابض لجسمهم، وأن وجودها بين ظهرانيهم ضروري ومؤكد. فحكموها في جميع حياتهم، واحتكموا إليها في كل شؤونهم ووضعوا من أجل حفظ القرآن وتحفيظه والمحافظة عليه، منهجا بسيطا سهلا، يمكن الناس منها ويجعلهم قريبين من القرآن.
وقد استمر ذلك المنهج الصحيح السليم ردحا من الزمان، ينفع الناس ويمكث في الأرض، -لأن القرآن في النفع المعنوي كالماء في النفع المادي- ويؤتى أكله كل حين بإذن ربه، إلى أن جاء الاستعمار البغيض وداهم الناس بكل مخططاته الجهنمية، فحاول جاهدا أن يصرف الناس عن طريقهم الصحيح، فوجد في بداية الأمر مقاومة شرسة مدة من الزمان، فكان الآباء والأجداد يرفضون كل مدارس الاستعمار ومؤسسات الإباحية، لأنهم رأوا أن برامج ومناهج الاستعمار غير سليمة، وأن هدفها الأساس هو مناهضة القرآن ومطاردته وتصيير الناس بعيدين عن الله.
وبعد مدة طويلة من المقاومة الصامدة، والتدافع المستمر، خرج أناس من المنطقة، وتشبعوا ببرامج ومناهج الاستعمار، وانبهروا بها، وصاروا خلفا أضاع رسالة القرآن، وباتت المدارس الحديثة تزاحم مدارس القرآن فتوجه الكل وجهتها إلا من رحم الله، وبذلك عرفت المدارس القرآنية تهميشا واسعا…
وكانت للهجرة التي عرفتها منطقة تافلالت أثار سلبية في ابتعاد الناس عن المناهج القرآنية.
ولا ينكر أن كل الرزايا والبلايا التي أصيبت بها الأمة عموما هي ناتجة عن بعدها عن القرآن الكريم ومناهجه وهديه. وظل المنهج الاستعماري جاثيا بركبه على مناهج القرآن مذ دخل إلى وطننا العزيز، ومحاولا القضاء على رسالة القرآن؛ وغفل الناس عن الأحقاد الضغينة للعدو غفلة طويلة. وصاروا يبتعدون عن القرآن وينسون ماضيهم المشرق شيئا فشيئا، إلى أن جاءت الصحوة المباركة بأمر الله، فتعالت أصواتها بالرجوع إلى القرآن وهديه بالمنهج نفسه الذي كانت عليه من قبل، وإن كانت بعض الجهات من بلدنا الحبيب تنادي بالرجوع إلى القرآن الكريم برؤية ومنهج جديدين، أهم ما يلاحظ عليهما إهمال المنهج القديم في التحفيظ وهو اعتماد ا للوح والاكتفاء بالتحفيظ في المصحف، وهو ما يقطع الصلة تماما بالرسم الموافق للمصاحف العثمانية.
أرى أن من اللازم وصل الحاضر بالماضي وصلا متسلسلا منطقيا، في صورة متسقة منسجمة ملتزمة بالدرس العميق والتأمل الفاحص، وذلك بفكر لا يتعصب لقديم عتيق، ولا يفتتن بجديد خداع براق.
والذي تجب ملاحظته هنا أن بعض الأشياء في هذا الكون لا تقبل التخلف والاختلاف وهي كالحكم العقلي. ولا تقبل التأرجح بين الأصالة والمعاصرة. وإذا أخضعت لهذا القانون فإنها تبوء بالفشل الذريع والخسران المبين، وقد ثبت بالتجربة أن منهج التحفيظ عن طريق المصحف الشريف غير سليم، ولا يستطيع الحافظ عن طريقه أن يقوم بمهمة التحفيظ على قوانين المنهج القديم.
المسألة الأولى: كيفية التحفيظ
اعتاد الناس أن يبعثوا أبناءهم إلى الفقيه المربي كلما عقلوا الخطاب، وكانوا قادرين على التعلم، واليوم الأول المختار الذي يستقبل فيه الفقيه الأبناء غالبا ما يكون يوم الأربعاء أو يوم الجمعة.
إن الآباء حينما يقدمون فلذات أكبادهم إلى الفقيه يقدمونهم وهم صفحة بيضاء لا يعرفون كتابة ولا قراءة، فكان الفقيه يتلطف في استقبالهم. ويدعو لهم بالفتح والتوفيق، وأول عمل يقوم به هو كتابة الحروف الأبجدية، لكي يحفظها التلميذ، فإذا حفظها ينتقل به إلى كيفية النطق بها. وينبهه على الفرق بين المعجم منها وغيره، فيقول له مثلا الألف معروفة بعدم النقط، والباء عليها نقطة من أسفل…
وبعد التمرن على الحروف بهذه الكيفية، ينتقل به إلى مرحلة معرفة حركات الإعراب، فيضع له خطا أفقيا أسفل اللوح عليه الحركات
ويختم له اللوح ب: "وبالله التوفيق علمنا يا الله".
تيمنا بقوله تعالى: {الرحمن علم القرآن}. وبقوله تعالى: {علم الإنسان ما لم يعلم}. وبعدما يحفظ التلميذ الحركات، ينتقل به الفقيه إلى عملية التطبيق، فيكتب له حرفا واحدا ويكرره حسب الحركات. لنأخذ مثلا حرف الباء: بُـ ، بٌ ، بَ ، بـًا ، بِ ، بٍ ، بْ ، بُّ ، بَّ ، بِّ ، بّـآ ، بُـو، بَـا ، بِي، ثم يقول له: قس كل الحروف على حرف الباء.
وبعد قطع المراحل المتقدمة، يكتب الفقيه للتلميذ سورة الفاتحة على اللوح ويهجيها حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وبعد حفظها ينتقل به إلى سورة الناس…
ولما يتمرن التلميذ على الحروف يقوم الفقيه بكتابة اللوح بقلم الرصاص، ويأمره بإمرار المداد على مواضع قلم الرصاص. ثم يكتب له اللوح ويضع تحت كل سطر خطا ينقل إليه التلميذ ما كتب أعلاه، وبعد هذه المرحلة ينتقل الفقيه بالتلميذ إلى طريقة الإملاء، وهي طريقة لها ما لها من الفوائد. أهمها: أنها تعتمد طريقة السماع والعرض المعروفة لدى المحدثين. فبعدما يكتب التلميذ البسملة واسم السورة التي يريد كتابتها، يقول: يرحمك الله يا سيدي باسم الله الرحمن الرحيم {إذا جاء نصر الله}، فيقول الفقيه: {والفتح ورأيت الناس} ثم يقول التلميذ: يرحمك الله يا سيدي: {والفتح ورأيت الناس} فيقول الفقيه: {يدخلون في دين الله أفواجا}… وهكذا. وحينما ينتهي التلميذ من الكتابة يقدم اللوح للفقيه قصد تصحيحه. فينبهه على الأخطاء التي تكون قد ارتكبت أثناء الإملاء وبعد تصحيحها يقرؤها الفقيه والتلميذ يسمع، ثم يقرؤها التلميذ والفقيه يسمع. ثم يقوم التلميذ ليحفظها، وهناك محطة مهمة في المنهج، وهي أمر الفقيه التلميذ بتعهد كل جديد سواء تعلق الأمر باللوح الذي محاه أم بالأحزاب الجديدة التي هي قريبة من لوحه.
ومهارة الفقيه وخبرته بمهمته تتجلى في حرصه الشديد على تعهد التلميذ بكل شيء جديد لديه. وطريقة المحافظة على الجديد هي: أن يأمر الفقيه التلميذ بتكرار لوحه حينما يمسحه مرات متعددة قبل الكتابة. وحينما يضيف إلى رصيده حزبا جديدا فإنه يأمره بتعهده في كل آن وحين، وهكذا دواليك…
كما يستعين الفقيه على ترسيخ ما حفظ في ذهن التلميذ بالتكرار الجماعي ثم الفردي وبالعرض عليه على الأقل مرة في الأسبوع.
المسألة الثانية: المحافظة على الرسم العثماني
لقد سلك الفقهاء السابقون طريقا مهما في المحافظة على الرسم، تتجلى في وضع قواعد وضوابط للتلميذ والتنبيه عليها، وكانوا لا يتساهلون في مخالفتهما حتى إنهم في غالب الأحيان يكتبونها بخط لافت للنظر. كي ترسخ في أذهان التلاميذ… وكان هذا العمل نافعا بإذن الله تعالى: ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، وإنما كان القصد منه ضبط المتشابه، ثم محاولة موافقة رسم المصاحف العثمانية، علما منهم بأنها أساس وركن مهم من أركان القراءة الصحيحة التي هي: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف ولو احتمالا، وصح سندها، وهي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين(1).
المسألة الثالثة: كيف كانت علاقة التلاميذ بالفقيه؟
إن التلميذ في بداية الأمر ربما لم يتذوق حلاوة ما يتعلم، لكن حينما يبدأ يتذوق حلاوة العلم والقرآن والكتابة… لا شك أن نظرته للفقيه تتغير فَيُكِنُّ له كل حب وود، ويجعله نصب عينيه مثلا يحتذى. وينظر إليه كأنه أبوه أو أحسن من أبيه الذي يقدم إليه كلما يحتاجه من الأمور المادية، إن التلميذ بعد مرحلة من التعلم، يصير للفقيه عجينة يصوغها كيف يشاء. وإنه كلما تقدم به الوقت وازداد تعلما إلا ويبالغ في الإخلاص للفقيه. ويهيئ نفسه لخدمة الفقيه كيفما كان نوعها سهلة أم شاقة.
وكان الفقيه يشعر بأن التلميذ ثمرة غرسه، ونتيجة عمله الدؤوب، فيحرص كل الحرص على أن ينتفع به التلميذ ويتعلم منه ويتربى على يديه، وأن يكون صورة من شخصه، فيدعو له بالتوفيق والسداد، ويحبه حبا جما وينصحه بالصبر والمصابرة والجد والاجتهاد… وهو يرجو أن يقطف ثمرة غرسه في أقرب وقت ممكن.
المسألة الرابعة: كيف كانت علاقة الآباء بالفقيه؟
كان الآباء يجعلون رجاءهم بعد الله في الفقيه، ويقدمون له فلذات أكبادهم وهم آملون راجون في تعلمهم القرآن والعلم والأخلاق، وكان رجاء الأمهات بالخصوص أن يرزقهن الله أولادا يتقدمن بهم إلى الفقيه. وكان الدعاء السائد للمرأة التي لا تنجب: "اللهم أعطها حقها" والقصد منه أن يرزقها الله ولدا يتعلم القرآن على يد الفقيه.
ودفع حب الفقيه الآباء إلى أن يقدموا له أحسن ما يملكون من طعام وغيره كثيرا أم قليلا. وكانوا لا يقدمون عليه أحدا في الضيافة أم في غيرها.
المسألة الخامسة: الوقت
إن الفقيه كان يقدر ظروف أهل البلد الذين يحتاجون إلى مساعدة أبنائهم في الكسب، ولذلك كان يحاول أن يوفق بين أوقات العمل وحفظ القرآن الكريم فيركز بالأساس على فترتي الغداة والآصال ويحث التلاميذ على الاستيقاظ في الصباح الباكر إلى حين خروجهم إلى العمل ويوصي الآباء بالتعاون على ذلك ويستقبلهم أيضا فترة الظهيرة، من الثانية بعد الزوال إلى حين صلاة العصر. ثم يستقبلهم بعد صلاة المغرب إلى وقت صلاة العشاء.
كما كان يخصص لطائفة معينة من التلاميذ الذين حفظوا أجزاء مهمة وقت ما بعد تناول وجبة العشاء قصد تكرار عدد من الأحزاب تتراوح ما بين خمسة إلى عشرة… فالإكثار من المراجعة عند الفقيه أساس في التحصيل المبكر، وترسيخ ما حفظ.
المسألة السادسة: الأدوات
ما هي الأدوات التي يحتاج إليها التلميذ في المنهج القديم؟
إن التكاليف التي يحتاج إليها التلميذ سهلة بسيطة وهي: لوح من خشب، وقلم من قصب، ودواة من مداد، ودراهم معدودة، قد لا تتجاوز العشرة.
فبات واضحا من هذا المنهج أنه منهج ميسر يسع الجميع: الغني والفقير، والموسر والمعسر والمحتاج على حد سواء.
المسألة السابعة: وقت الراحة
هل كان الفقيه يعطي للتلاميذ أوقاتا للراحة؟
نعم كان في كل أسبوع يوم الخميس وصبيحة يوم الجمعة، وقت للاستراحة الأسبوعية، إضافة إلى الاستراحة السنوية التي لها علاقة بالعطل الدينية مثلا عيد الفطر، وعيد الأضحى، وذكرى المولد النبوي…
هل على منهج التحفيظ بتافلالت مآخذ؟
رغم الإيجابيات التي حققها هذا المنهج، فإن عليه مآخذ لا تنكر وتتجلى في:
أ-عدم التزام المنهج بمبدأ اللين والرأفة والرحمة في غالب الأحيان. وكان من عواقب هذا اتسام المنهج بالقسوة التي تؤدي في بعض الأوقات إلى تنفير التلميذ من الفقيه، وبالتالي إلى حرمانه من حفظ القرآن الكريم، فالأولى لذلك المنهج أن يطعَّم بالتحلي بجمل من الآداب والأخلاق الحسنة التي تحبب للتلميذ القرآن، بل الأفضل أن يعامل التلميذ معاملة حسنة وأن يحفز تحفيزا يليق بمقام القرآن الكريم.
ب-حرمان الفتاة من حفظ القرآن خاصة ومن تعلم كل العلوم عامة، ومن العيب ومن العار أن تتعلم الفتاة أو تحفظ القرآن كأنه حكر على الفتى وقد بلغ الأمر -كما تحكي إحدى السيدات التي وفقها الله لحفظ قسط وافر من القرآن هي وأختها- ببعض رجال المنطقة أنه كان يَسْخَرُ من أخيه الفقيه لما رآه يهتم بتحفيظ بناته، حتى قال له: أتريد أن يخرج بناتك ساحرات؟ يعني أن الفتاة لا حق لها في حفظ القرآن الكريم.
وها هي الآن والحمد لله صحوة قرآنية مباركة، شركت الفتاة إلى جانب الفتى في حفظ القرآن وتَغَلَّبَ العقل على الهوى، والحكمة على الفوضى والحرمان والظلم والتسيب، فصرنا نرى بفضل الله الحافظات بجانب الحافظين، بل إن الحافظات المجيدات في غالب الأحيان أكثر من الحافظين.
كما عرف المنهج تطورا ملحوظا وحلت الحكمة والمنطق والحوار محل العصا والقسوة والشدة. والحض والتحفيظ والتشجيع بدل التنفير والتخويف…
الخاتمة
من خلال تلك الإشارات العابرة إلى مزايا منهج تحفيظ القرآن الكريم وتبيان بعض المآخذ عليه يتبين أن فائدته عظيمة، فلا يكاد يمر على التلميذ العام الواحد حتى يتعلم الكتابة والقراءة ويحفظ أجزاء مهمة من القرآن الكريم، ويجتاز كل الصعاب والعقبات التي تعترض سبيله في المناهج الجديدة.
1- انظر النشر في القراءات العشر 1/14… طبعة دار الفكر.
د. عبد الله غازيوي
موقع جريدة المحجة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق