يعتبر مسجد القرويين بفاس من أعرق المساجد المغربية وأقدمها. وتكاد تجمع الدراسات التاريخية على ان هذا المسجد بنته فاطمة الفهرية (أم البنين) في عهد دولة الأدارسة..
بداية بناء مسجد القرويين
شرع في حفر أساس مسجد القرويين والأخذ في أمر بنائه أول رمضان من سنة 245 (30 نونبر 859) بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه وظلت صائمة محتبسة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله"، وهذه حقيقة تاريخه لا يسمح الباحث لنفسه بالاستسلام للشك فيها والتردد أمامها سيما وهي ترجع لوقت مبكر من تاريخ المغرب أعني وقت بني مرين أوائل القرن الثامن الهجري، بيد أننا نجد أنفسنا اليوم أمام وثيقة معاصرة للأدارسة، إنها لوحة منقوشة عثر عليها – عند أعمال الترميم – في البلاط الأوسط فوق قوس المحراب القديم الذي كان للقرويين قبل قيام المرابطين بتوسعة المسجد، لقد اكتشفت مدفونة تحت الجبس وقد كتب عليها – في جملة ما كتب – بخط كوفي إفريقي عتيق: "بني هذا المسجد في شهر ذي القعدة من سنة ثلاثة وستين ومائتي سنة مما أمر به الإمام أعزه الله داود بن إدريس أبقاه الله… ونصره نصرا عزيزا" .
وما دمنا في استعراض الآراء حول تاريخ بناء القرويين لا بد أن نعرض لرأي ثالث نقله الدكتور أوسكار لانز(1) فلقد ساق ترجمة لنقش قيل أنه عثر عليه فوق "صفيقة فضية" مغروزة في أحد جدران المسجد وتوجد ضمن هذا النص العبارة التالية: "… بنى يوم الخميس من سنة 306 أول شهر ربيع النبوي.." أي في أيام ولاية يحيى الرابع…
وحتى نرجع إلى حديث فاطمة وداود نشير إلى أن رواية الدكتور لانز لا نعيرها أي وزن من الناحية التاريخية لأنها خالية من كل سند ملموس سيما مع ما حكاه عن الطالب إدريس الذي زوده بهذه الوثيقة والذي لم يكتمه أنه وجد صعوبة في الوصول إلى بقية النقش، الأمر الذي يقرب إلى "أساطير" السياح أكثر مما يخدم الحقيقة التاريخية، هذا مع العلم بأن أول ربيع الأول يوافق – حسابيا يوم الثلاثاء وليس يوم الخميس… وبعد فلنرجع إلى ابن أبي زرع، واللوحة المنبعثة.
ولكن قبل أن نفتح الموضوع يجب أن نتعرف في كلمة وجيزة عن الإمام داود ابن إدريس تاركا التفصيل للبحث الذي كنت كتبته خصيصا عن هذه الشخصية(2) :
بالرغم من أن جميع المؤرخين بخلوا على داود هذا بأكثر من كلمة واحدة تتلخص في أنه "لما توفي إدريس الثاني قام بالأمر بعده ابنه محمد، وأن هذا الأخير قسم بلاد المغرب بين كبار إخوته ترضية لهم وكان من بينهم داود الذي استأثر بإقليم تازة." وقد رددت سائر المصادر صدى "الفتنة" التي نشبت بين بني إدريس على أثر هذه "الترضية" لكنها لم تعد بحال لذكر اسم داود، وقد كاد هذا الاسم يعد في عداد الشائعين لولا عناصر ثلاثة:
أولها: اليعقوبي(3) الذي يذكر أن داود ابن إدريس كان واليا على عدوة الأندلس وأنه كان "يدافع" يحيى صاحب عدوة القرويين المعروفة بالمدينة العظمى.
ثانيا: الدرهم الموجود بالمكتبة الوطنية بباريز الذي يحمل اسم الإمام داود ابن إدريس(4)
ثالثا: هذه اللوحة الأثرية التي يحتفظ بها الآن في المركز الرئيس لمصلحة الآثار بالمملكة المغربية.
وبعد هذا نرجع إلى الحديث…
هل القرويين من تأسيس فاطمة؟ أو من عمل داود؟
لقد كنت كتبت بمجرد وقوفي على اللوحة كلمة في الموضوع نشرت في مختلف المجلات العلمية سواء بالمغرب(5) أو القاهرة(6) أو تونس(7) أو إسبانيا(8) وكنت قصدت كما صرحت بذلك أن أثير انتباه الناس علهم يساعدون على إضفاء الضوء على هذه الحقائق، ومن سوء الحظ انثي إلى الآن لم أقف على "رد فعل" من طرف الذين يهمهم أمر التاريخ حاشا بعض "الفروض" التي تلقيتها من بعض الأساتذة الأجلاء الذين حرصوا على أن يجعلوا نقل القرطاس في نجوة من الشيهة والريب.
ففي الناس من أوصى بنبذ أمر هذه اللوحة لأنها في نظرة تناهض "توترا" متوارثا عبر الأجيال، وفيهم من رجح أن تكون اللوحة قد نقدت من مكان آخر وغرزت هنا… وأن ذلك تم على عهد الوطاسيين في الفترة القصيرة التي رجع فيها النفوذ بشرفاء الأدارسة بواسطة محمد بن علي الجوطي(9).
وفي الناس طائفة ثالثة يصممون على أن يأخذوا بما ورد في مدلول اللوحة نظرا أولا لكونهما "وثيقة معاصرة"، وثانيا لما أثر من هفوات عن القرطاس، وثالثا لكون بعض الرحالة و المؤرخين القدامى من أمثال اليعقوبي والبكري وابن عذاري تحدثوا عن مدينة فاس بمسجديها العتيقين لكنهم لم يعرجوا على تأسيس القرويين على النحو الذي عرف في القرطاس…
فماذا تكون الحقيقة؟
أما "التوصية" بنبذ اللوحة فأمر سلبي لا يسمح به المؤرخ النزيه، وأما عن أمر نقل اللوحة وخاصة أيام الوطاسيين فإنه ببعده عندي أن التاريخ ظل صامتا صمتا مطلقا عن مؤسسات داود ابن إدريس في مناطق نفوذه فلا يمكن أن ندعي إذن أنه أسس هناك "مسجدا" وأن "اللوحة" التي كانت على ذلك المسجد هي التي نقلت! لكن الأبعد هو القول بأن عملية النقل تمت على عهد الوطاسيين مع أنها وجدت تحت الجبس الذي ضرب – منذ نهاية دولة المرابطين – على سائر جهات البلاط الأوسط، ولم يتحدث التاريخ أبدا عن إزاحة "التبليط" (10) الذي قام به فقهاء فاس أو المسؤولون في الدولة الموحدية، لذا فأمام قوة هذه الوثيقة الناطقة واعتبارا لما نقل عن اليعقوبي وعرف من أمر السكة الداودية واحتراما لما نقل عن أبي القاسم ابن جنون (11) وأبي محمد عبد الملك بن محمود الوراق (12) مما تردد صداه في الأنيس المطرب وانعكس في زهرة الآس والعبر والجذوة.
ونظرا لأنتا لم نعثر لحد الآن على نص تاريخي آخر يعزز بناء الإمام داود لجامع القرويين ، ونظرا لكون النقش المشار إليه لم ينص بصفة واضحة على لفظ القرويين، أقول مراعاة لكل ذلك نجد أنفسنا بين احتمالين:
فإما أن يكون ابتداء البناء كان في رمضان 245 في أيام يحيى ولكنه استمر إلى سنة 263 أيام داود بن إدريس وتكون فاطمة استغرقت في صومها كل هذه المدة، ويؤيد هذا الرأي أولا ما استهدفت له البلاد من حالة الجفاف في هذه الأثناء، وثانيا ما تعهدت به فاطمة والتزمت من استخراج كل موارد البناء من نفس البقعة تحريا، وثالثا أن المصادر التاريخية إنما تحدثت عن ابتداء البناء ولم تتحدث عن انتهائه، فكل هذا مما يبرر استغراق كل هذه المدة.
وإما أن يكون البناء تم في نفس السنة نظرا لكون الجامع – ومساحته لاتصل على ألف متر مربع – لا يمكن التهاون في أمر بنائه طيلة ثمانية عشر عاما… ويفسر وجود داود بن إدريس هنا بأنه في الفترة التي كان "يدافع" فيه يحيى تمكن في بعض الظروف من الاستيلاء على عدوة القرويين وتخليدا لهذا الفوز الذي حصل عليه في عدوة القرويين ورقبة في أن تعرف الأجيال القادمة أنه كان "هنا" فقد شاء أن ينقش اسمه كنصب تذكاري في هذه الجهة، ولما كان الملوك، والرؤساء يختارون ابرز مكان وأشهره لتخليد أسمائهم، وكان أقدس مكان وأكرمه هو جامع القرويين فقد كان هو بالذات المركز المختار، ولما كان أفضل مكان في المسجد وأظهره هو المحراب فقد تم ضرب هذه الارزة عليه حتى تظل أمام المتعبدين والقاصدين بقي أن يتساءل عن اختفاء اسم فاطمة من اللوحة مع أن النصوص المذكورة تتضافر على أنها المؤسسة؟
إننا نعلم أن التقاليد القديمة لا تلح في ذكر أسماء النساء على المباني سيما مع ما أثر من أن الشعوب قد تقوم بالمشاريع وترجو إلى الملوك تبنيها تقديرا لهم وتكريما لمقامهم.
الهوامش:
(1)- Oskar Lenz : Voyage au Maroc – Pari 1886 – Vol 2
(2)- التازي، مجلة "دعوة الحق" العدد السابع، السنة الثالثة أبريل 1960 – مجلة "مجمع اللغة العربية" بدمشق المجلد 36 جزء 2 ص 212.
(3)- اليعقوبي، أخبار البلدان، طبعة ليدن 1890 ص 137.
(4)- La voix : Cataloques des Monnaies - Musulmane de Bibliothèque
Nationale, page 69 , n° 921.
(5)- التازي – مجلة "التربية الوطنية" العدد الرابع سنة 1960 ص 19 – 20.
(6)- مجلة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية العدد الثامن 1959 ص 244 – 245.
(7)- التازي – مجلة الفكر – السنة الخامسة عدد 6 مارس 1960
(8)- التازي – مجلة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد – المجلد السادس 1958 ص 277 - 278
(9)- Déverdun – Mélanges d’Histoire et d’Archéologie. T. 11, page 72
(10) مجلة كلية الآداب – الإسكندرية، العدد 14 سنة 1960 ص 60 – 88 – المؤتمر الثالث للآثار العربية، نشر الجامعة العربية ص 445 – 465 – التازي: التربية الوطنية – السنة الثانية – العدد الثاني دجنبر 1960، أحد عمداء القرويين عبد الحق بن معيشة – التازي: جامعة القرويين في أحد عشر قرنا طبعة المحمدية ص 8
(11)- رسالة في ذكر من أسس مدينة فاس (مخطوطة) مجهولة المؤلف بمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية تحت رقم 9722 ح)
(12)- مخطوط في تاريخ الأدارسة من كوبنهاجن مصور بمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية..
(مجلة دعوة الحق، العدد الأول، السنة السادسة، 1962م)
وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية
0 التعليقات:
إرسال تعليق