لكنها وجدت نفسها أمام مفاجأة غير سارة هذه المرة، أفسدت عليها فرحتها التي لم يمر عليها سوى ثوانٍ معدودات؛ لقد تبرمت الابنة وكشرت عن أنيابها سائلة أمها بوجه عبوس: "كيف تأخذينني يا أمي إلى هذا المحل (البيئة)؟ ماذا سأقول لصديقاتي حينما يسألنني عن المكان الذي اشتريت منه ملابسي الجديدة؟ أيرضيك أن أظهر أمامهن وكأني فقيرة؟ وكأني لا أستطيع الشراء إلا من تلك المحلات ذات الأسعار المنخفضة؟".
أبناء آخر زمن
المشهد الثاني.. أب يأتي من السفر، محملا بالهدايا لابنه ذي السنوات العشر، وكان من ضمن هذه الهدايا "تي شيرت T-Shirt"، علامة "أيداس Addidas"؛ وهي العلامة التجارية الألمانية المعروفة، ولكي يفر الأب من غلو ثمن الـ"تي شيرت"، الذي طالبه به ابنه، قرر أن يشتريه صناعة صينية؛ أي أن يشتريه مقلدا؛ آخذا في الاعتبار أن ابنه "الطفل" لن يلحظ ذلك.
لكنه فوجئ بسذاجته المفرطة أمام ذكاء طفله المفرط الذي اكتشف الأمر بمنتهى السهولة، وكانت النتيجة أن صاح الابن مؤنبا والده قائلا: "كيف ترضى لي يا أبي أن ألبس ملابس مقلدة؟ ماذا سيقول أصدقائي حينما يكتشفون ذلك؟ أنا آسف يا أبي، لن أستطيع وضع هذا الـ(تي شيرت) المقلد على جسدي؟".
المشهد الثالث.. ابنة تدرس بالسنة الأولى بجامعة خاصة؛ دفع إليها والدها ألوفا مؤلفة كمصاريف للسنة الأولى، اكتشف الأب قدرا أن الجامعة تسمح بتخفيضات مالية لأولئك الآباء الذين يصعب عليهم دفع تلك المصاريف.
وحينما سأل الأب ابنته عن ذلك، كانت المفاجأة، فقد كانت الابنة على علم بذلك، لكنها أخفته عنه، مخافة أن تعيرها زميلاتها بأن والدها غير قادر على دفع المصاريف كلها؛ وهكذا كل صديقاتها يفكرن بنفس المبدأ، لقد قالت الابنة لوالدها مؤنبة إياه: "لا أستطيع أن أقدم على طلب مثل هذا؟ ماذا ستقول صديقاتي حينما يعلمن أنني أقدم طلبا لتخفيض مصاريفي؟ أيرضيك يا أبي أن أظهر أمامهن وكأني لا أستطيع أن أوفر مصاريفي الجامعية؟".
"الشلة" أولا
هذه مشاهد ثلاثة حقيقية، حكيت لي من قبل آباء وأمهات، صاروا يضربون الكف على الكف من فرط غيظهم وغضبهم، هم يتعجبون –وأنا أتعجب معهم– من هذا الجيل الذي لا يلقي بالا إلى مصلحة آبائه وأمهاته، فيضغط عليهم بمنتهى الافتراء والظلم حتى لا يفقد مظهره أمام "شلته" التي أضحت هي المعيار والمقياس الذي يقاس عليه كل شيء.
أتذكر جيدا حينما كنت في هذه المرحلة العمرية أن تلك الأمور "المظهرية" لم تكن تسترعي انتباهي أو انتباه صديقاتي، فعلى الرغم من تخرجنا في مدرسة خاصة، وجامعة خاصة، فإن تلك المظاهر لم تكن أبدا على سلم أولوياتنا.
فلم يكن يشغل خاطرنا، من أين اشترت فلانة هذا أو ذاك؟ أو كم دفعت فيه؟ بل إنني أتذكر جيدا ذهابنا –دون أدنى حرج– إلى مكتب تخفيضات المصاريف بالجامعة الخاصة حينذاك، وملأنا للاستمارة دون خجل أو خوف، بل ملأنا لها بمنتهى الحمية والجرأة، سعيًا نحو تخفيف العبء المالي عن أكتاف والدينا.
سؤالي باختصار: ما هي الدوافع والعوامل التي أدت إلى حدوث تلك المشاهد الثلاثة؟ هل السبب في غفلة الآباء غير المقصودة على الرغم من تضجرهم ومن ثم عدم وعي الأبناء؟ هل السبب في شراسة الحياة المادية التي فرضت نفسها اليوم على الجميع، فأفقدتهم البوصلة والوجهة، وكيفية وزن الأمور بميزان دقيق؟ هل السبب في غياب المنظومة القيمية الإسلامية من القلوب والعقول تحت نيران العولمة أو الأمركة من جانب، وتحت نيران "التشويش" المحلي على حقيقة الدين ومضمونه من جانب آخر؟ أعتقد أن السبب في كل تلك العوامل مجتمعة.
غفلة الآباء
قد يكون الآباء مؤدين لجميع شعائر الله؛ مصلين وصائمين ومزكين وحاجين لبيت الله الحرام، لكنهم تاهوا بين مادية الحياة من ناحية، وشيوع المفاهيم العولمية المؤمركة من ناحية أخرى؛ تلك المفاهيم التي جرفتهم وجرفت أبناءهم معا نحو سلوكيات لم تعهدها مجتمعاتنا من قبل.
في وسط هذا المناخ العولمي، وفي وسط هذه الحياة المادية الشرسة التي فرضت على الجميع الجري واللهاث يوميا وراء لقمة العيش بل التي فرضت عليهم اللهاث وراء تعليم الأبناء من الحضانة حتى الجامعة، غاب الاهتمام بعالم القيم والمفاهيم الذي يضبط عالم الحركة والسلوك.
فلم يعد لدى الأب والأم وقت لكي يفهما أبناءهما أن "حب الظهور" من الكبر، وبأن الكبر لا يدخل الجنة، ولم يعد لديهما وقت لأن يفهما أبناءهما أن الرحمة بالآباء، وعدم تكليفهم فوق طاقتهم، من البر والإحسان المأمور بهما في ديننا الحنيف.
باختصار، لقد غفل الكثير من آباء وأمهات اليوم عن توجيه أبنائهم نحو المنظومة القيمية الإسلامية التي تحكم الفكر والسلوك والتصرف، واكتفوا بتوجيههم نحو المنظومة الشعائرية فقط، فأضحى الأبناء يؤدون الشعائر بانعزال عن القيم، وبات الدين مختزلا أو محبوسا في مجموعة من الشعائر، بدون تأثير على الحياة ومجرياتها، وهو حال مشابه لما نشهده في كنائس الغرب، حيث يمارس الدين هناك في يوم الأحد فقط، في عطلة نهاية الأسبوع، أما بقية الأسبوع، فيفعل المرء ما يشاء.
وأصبح كل ما يهم الأب أن يرى ابنه مصليا صائما، بغض النظر عما يحمل من قيم، وأصبح كل ما يهم الأم أن ترى ابنتها في زيها الإسلامي بغض النظر عما يدور في قلبها وعقلها من قيم.
وهو الأمر الذي يكشف لنا عن ظاهرة واضحة منتشرة في مجتمعاتنا المسلمة؛ وهي انسحاب منظومة القيم الإسلامية من القلوب والعقول على الرغم من ازدياد المظاهر الإسلامية، من حجاب ونقاب وإطلاق لحى ورحلات حج وعمرة ومدارس إسلامية ومساجد لا حصر لها.
في كلمة واحدة، إن منظومة القيم في تراجع شديد، بينما منظومة المظاهر في ازدياد شديد أيضا.
فقد تجد الآن فتاة تلبس زيا إسلاميا، لكن سلوكها يفتقد لكل معاني الحياء والعفة، وقد تجد شابا ملتحيا، يرتاد المساجد، ولكن سلوكه يفتقد لكل معاني الشهامة والرجولة، وقد تجد سيدة تلبس نقابا، ولا تمانع من الدخول للتسوق في محلات يذهب جزء كبير من أرباحها إلى الكيان الصهيوني! أنستحي من كشف الوجه، ولا نستحي من دعم العدو؟! وليته عدوا عاديا، وإنما هو عدو إستراتيجي لمنطقتنا على مدى ستين عاما!!
والملفت للنظر، أن الوضع كان معاكسا فيما مضى، فبينما كان الظاهر منحسرا، كانت القيم الإسلامية متمكنة من قلوب وعقول المسلمين، لقد كان الإسلام دوما مهيمنا على الفكر والسلوك، حتى في ظل ضعف الخلافة العثمانية، لكنه بعد سقوط الأخيرة، بدأت هذه الهيمنة تضعف وتخفت رويدا رويدا، فكلما بعدنا زمنيا عن هذه الفترة، اتضح هذا الضعف أكثر فأكثر، ولاسيما بحلول أنظمة قطرية قومية علمانية مستبدة، أسهمت تدريجيا منذ الخمسينيات في فصل الإسلام عن نظام الحياة، وعن فكر المسلمين وسلوكياتهم.
لقد قامت هذه الأنظمة بإجراء عملية "الفصل" تلك، مستهدفة تغيير المظهر والجوهر الإسلاميين معا، ولم يأخذ تغيير المظهر وقتا طويلا، على عكس الجوهر الذي كان وما زال ثابتا، لكنه مع مرور الوقت، وازدياد هذه الأنظمة تسلطا، بدأ الجوهر يتغير هو الآخر، ولاسيما مع ازدياد تأثير الخارجي على الداخلي من بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وتحول الولايات المتحدة إلى القطب الأوحد، وحينما أفاق المسلمون على ما حدث لهم طيلة عقود ماضية، من تغيير ونخر مستمرين في مظهرهم وجوهرهم، بدءوا في تصحيح المسار "ظاهريا" فقط، لكونه هو الأسهل والأسرع، متناسين تصحيح الجوهر، وما يحتويه من أفكار وقيم، وأصبح "الظاهر" الإسلامي منتشرًا بصورة واضحة جدا، لكن نصيب العقل والفكر فيه مضمحل إلى أقصى درجة.
المدارس الدولية
وتكتمل المأساة بشيوع ظاهرة "المدارس الدولية" التي أسهمت بقدر كبير في إضعاف المنظومة القيمية الإسلامية لدى أبنائنا؛ بل استبدال منظومة أخرى بتلك المنظومة، لا تنتمي لديننا ولا لثقافتنا ولا لحضارتنا؛ فتم استبدال قيم الفردية والمادية والعالمية بقيم الجماعة والإيثار وحب الوطن.
وبات الأبناء يطعمون يوميا بمناهج "التربية المدنية" الأمريكية التي تمثل أداة من أدوات كثيرة للهيمنة الإستراتيجية الأمريكية على المنطقة العربية؛ ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
لقد دس إلينا مفهوم "التربية المدنية" كالسم في العسل، والتقطته مدارسنا حتى الإسلامية منها دون تمحيص أو تدقيق، إنه ذلك المفهوم الذي يبدو إيجابيا من الظاهر، ولكنه في الحقيقة يضمر كل الأذى والضر لمنظومتنا القيمية.
فكلمة "مدني -كما يشير الدكتور "سيف الدين عبد الفتاح" أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة- أضحت كلمة "الموضة" في هذا العصر، الكلمة التي باتت تلصق بكل المفاهيم الحضارية الكبرى (مثل العلم والمعرفة والفكر والثقافة... إلخ) لتجعلها شرعية وفق التصور الأمريكي، إنها الكلمة التي استخدمت أمريكيا وعولميا ليتم حصرها في معنيين في غاية الخطورة: أولا: أن تعني هذه الكلمة مناهضتها للدين؛ ثانيا: أن تعني مناهضتها لمقاومة المحتل.
وعلى هذا الأساس، بات أبناؤنا الذين يرسلهم آباؤهم يوميا إلى المدارس الدولية، ويدفعون لهم ألوف الجنيهات سنويا، باتوا يلقنون يوميا كيف يكونون "مدنيين" وفقا للتصور الأمريكي؛ أي كيف يكونون ضد الدين وضد المقاومة.
إن "مصيبة" المدارس الدولية تعكس مدى الخلل الكامن في منظوماتنا التعليمية التي لم تستطع حتى هذه اللحظة تأسيس نظام تعليمي متوازن، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وكانت نتيجة استفحال تلك "المصيبة"، تخرج جيل "متعولم" و"متأمرك" إلى أقصى درجة؛ لا يعرف شيئا عن وطنيته أو هويته أو انتمائه، ولم لا؟ وهو يتعلم من تلك المدارس أن حب الوطن تعصب، وأن إبراز الهوية تحيز، وأن إظهار الانتماء ضيق أفق؟
فلماذا نتعجب بعد ذلك إذا خرج علينا جيل لا يعيش إلا لنفسه، ولا يهمه في الحياة إلا الظهور و"الفشخرة" والأنانية؟
شيرين حامد فهمي
0 التعليقات:
إرسال تعليق